إذا نجحت بغداد في جمع الحلفاء والأضداد معاً في قمة هي الأولى من نوعها في المنطقة، في نهاية الشهر الحالي، فسيُسجل لها ذلك في كتب التاريخ.
حتى الآن، ما زالت القمة مجرد فكرة مقترحة ومواعيدها غير نهائية. صحيح أن الدعوات إليها قد وجهت وجال مبعوثو رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي على العواصم القريبة لتسليم الدعوات الرسمية إلى الزعماء والقادة.
من ابراهيم رئيسي في طهران إلى سلمان بن عبدالعزيز في الرياض، ورجب طيب أردوغان في أنقرة وعبدالفتاح السيسي في القاهرة. لكن التثبت من انعقاد القمة بمشاركة قادة نحو عشر دول، لم يحسم بعد.
إلا أن الفكرة بحد ذاتها – فكرة لقاء كل هؤلاء الزعماء في قاعة واحدة وبضيافة مصطفى الكاظمي – تثير الشهية لكثرة ما يمكن تصوره من ملفات وحساسيات وقضايا قد تكون على طاولة المحادثات الجماعية، واللقاءات الثنائية، إن انعقدت.
ومع ذلك، فإن غياب سوريا عن القمة، كما هو متداول حتى الآن، حيث لم يتخذ قرار بتوجيه الدعوة إليها للمشاركة، ينتقص تلقائياً من قيمتها، ويطرح مسبقاً شكوكاً حول قيمة المرتجى منها، طالما أنها – سوريا – أولاً إحدى بؤر الاشتباك الاقليمي – الدولي التي يفترض فكفكة جبهاتها، وثانياً أنه يفترض، بحسب ما يأمل الداعون إلى القمة والمشاركون فيها، أن تكون القمة نقطة بداية لهذا التلاقي الاستثنائي الأول من من نوعه، إن كتبت له الحياة، فكيف سيستقيم من دون الحضور السوري؟
للأتراك، للإيرانيين، للأميركيين، للروس، للعراقيين، حضور عسكري مباشر على الأراضي السورية وقد تداخلت شرارات البركانين العراقي والسوري مع ظهور تنظيم “داعش”، ناهيك عن استثنائية الوضع الكردي.
ولهذا، فإن السؤال الجوهري، كيف لا يُفك هذا الاشتباك الاقليمي من خلال قمة بغداد المأمولة؟
ومن الصعب التصور أن القمة الاقليمية ستعقد من دون أن يكون الكاظمي قد استمزج آراء الرئيس الاميركي جو بايدن حولها عندما التقاه في واشنطن مؤخراً، وربما بالتنسيق معه، ولهذا سيكون من المهم ترقب مستوى المشاركة الأميركية في قمة بغداد المقترحة، وما اذا كان بايدن أو ابراهيم رئيسي، سيشاركان فيها شخصياً.
يلتقط الكاظمي إشارات التحولات الاقليمية الجارية، ويسعى بذلك إلى تجيير مكاسب سياسية خاصة به، ومن أجل العراق.
القمة الإقليمية تستبق بأيام قليلة استكمال الخروج العسكري الأميركي من أفغانستان الذي يطوي نظرياً على الأقل مرحلة ما بعد هجمات 11 ايلول/سبتمبر، ويفتح المنطقة على احتمالات واسعة الخيارات، بما فيما احتمالات إعادة تموضع “الإرهابيين” في الأرض الأفغانية الخصبة، والأكثر مناعة وتحصيناً من صَحَارى العراق والبادية السورية.
هذا قد يكون سبباً إضافياً أدعى لحضور سوريا. كما أن بايدن يلقي قنبلة يدوية قابلة للانفجار مبكراً، على خاصرة الدول الإقليمية المجتمعة للمرة الأولى بهذا الشكل، عشية إعادة مشهد تعليق نجيب الله على حبل المشنقة في كابول قبل 25 عاماً بالضبط.
المشهد الإقليمي سيتخذ أبعاداً استثنائية مع إعلان بايدن إنهاء المهمة القتالية للقوات الاميركية في العراق بنهاية السنة الحالية، بما قد يستدعيه ذلك من إعادة نظر – على الأقل – بطبيعة وحجم وأهداف التمركز العسكري الأميركي في الشرق السوري.
وهذا سبب آخر كان يحتم ألا تغفل بغداد تمثيل دمشق في القمة المرجوة. ومن المعروف أن الرياض وأبو ظبي صارتا، وقبل انفجار خلافهما مع قطر قبل بضع سنوات، من أكثر الدول المتحسسة من استمرار التغلغل التركي في الشمال السوري، وهو بالتأكيد أحد الاسباب التي دفعت الإمارات إلى إعادة علاقاتها الدبلوماسية مع الحكومة السورية.
فهل تكون القمة الاقليمية مناسبة لوضع النقاط على الحروف في المحادثات المحتملة مع الأتراك، بالإضافة إلى القطريين الذين تبدو بلادهم آخر دولة عربية تجاهر علانية بموقفها المعادي للحكومة في دمشق، وتغطي “الاحتلال” التركي المباشر للاراضي السورية؟
قمة بغداد قد تكون نقطة تحول إقليمية تدفع باتجاه تسويات لأزمات مزمنة، كاليمن مثلاً.
لكنها في الوقت نفسه، قد لا تنجز الكثير مما هو مأمول، ولعلها تكتفي بكسر الجليد بين المتخاصمين بصورة تذكارية جماعية.
وللمفارقة إن الصورة بحد ذاتها تمثل إنجازاً عراقياً، لهذا البلد الذي كان في ما مضى من زمن قريب، ملفاً مزمناً تارة للتباحث والتنسيق بين إيران وتركيا وسوريا، وتارة أخرى ساحة مشتهاة لحروب الإرهاب والحروب عليه.
وبالمناسبة، أين لبنان، وهل هو مغيب أم غائب بإرادته عن هذا التجمع الإقليمي الفريد الذي قد يكون حبل نجاة؟
ألا مكان له ولو بصفة “مراقب” ولو إلى جانب “عراب” الحل اللبناني ايمانويل ماكرون؟
السؤال كما الإجابة عليه، برسم الكاظمي. ثمة سؤال أخير؛ هل كان من الأفضل للكاظمي ألا يستعجل الدعوة للقمة، قبل جلاء مسار مفاوضات فيينا، فإذا توصل الجانبان الأميركي والإيراني إلى إتفاق، تصبح قمة إقليمية من هذا النوع ضرورية ومطلوبة، ومدعاة أكبر لانضمام سوريا ولبنان إليها، أما إذا تعذرت فرصة الاتفاق، يصبح الأجدر بالكاظمي أن يفكر بجمع العراقيين أولاً حول ما يُحصّن ساحتهم، بدل تشتيت نفسه بين طهران وواشنطن طمعاً بولاية ثانية، لا يبدو أنها ستكون مضمونة إلا على إيقاع التفاهم النووي.