في لبنان، يصدمك مشهد مئات السيارات وهي تصطف لساعات على محطة الوقود “كورال” بالقرب من جبيل، لتعبئة ما يقل عن ثلاثة دولار من البنزين، فيما الأفران تعاني نقصاً من الطحين والصيدليات من الأدوية.
ليس بعيداً عن محطة البنزين نفسها هناك قلعة بيبلوس كشاهد على حضارة عمرها آلاف السنوات وهي بين الأقدم والأعرق في العالم. حضارةٌ لا تليق اليوم بمن ورثها وأهدرها من قيادات جشعة وفاشلة ومفلسة أخلاقيا ووطنيا وسياسيا همها البقاء في السلطة.
أزمة لبنان الخانقة طبعا هي وليدة ظروف عدة مرت على لبنان من اجتياح إسرائيلي وحصار أميركي وغيرها من التدخلات في شؤون لبنان فهي أولاً وأخيراً من صنع طبقة سياسية واقتصادية مدججة بالفساد، في وطن يستقوي فيه السلاح على القانون ومافيات الدولة وغيرها على المواطن.
فيما يحاول الرئيس المكلف نجيب ميقاتي تشكيل حكومة توصل إلى الاستحقاقات الانتخابية العام المقبل، تتنافس مافيات السفارات على فرض سلطاتها للتدخل في توزيع المقاعد النيابية وإعداد برنامج عمل يليق بمصالحها وعقودها في لبنان.
يُفضل هذه المافيات الشلل الحكومي وخنق المواطن وما تبقى من لقمة عيشه ودوائه ووقوده وطحينه ومائه بدل التنازل عن كرسي وزاري.
الانحطاط والطمع السياسي وصل مستويات لم يسبق أن عاشها لبنان منذ ولادة الجمهورية في 1943.
وأمام هذا الواقع نرى أن دول هذه السفارات وعلى رأسها فرنسا والولايات المتحدة بدأت التحضير لرزمة عقوبات ستطال نطاقاً واسعاً من السياسيين المتورطين بالفساد. العقوبات مرجحة سواء شكل لبنان حكومة أو لم يشكل.
طوال عقود، اعتادت الطبقة السياسية اللبنانية أن تمارس الازدواجية في تعاطيها مع الداخل والخارج. أن تهدر المال العام وتسرق وترتشي وفي نفس الوقت تزعم أنها حامية الأقليات والطوائف و”الوجود” اللبناني. أما خارجياً، فهي نفسها كانت تتلقى القروض وتعد بإصلاحات فيما تملأ الأموال في البنوك الخارجية.
هذه الازدواجية سقطت اليوم في الداخل والخارج ولم تعد الوعود كافية لتلقي القروض والمساعدات. فلا ثقة من المواطن بالنخبة السياسية المسيّرة من السفارات ولا شيكات على بياض من دول المنطقة أو الغرب. ثلاثون عاماً منذ نهاية الحرب الأهلية لم تكن كافية للنهوض بنظام سياسي يضع المصلحة العامة فوق سلطة مافيا السفارات.
اليوم يقف لبنان على منعطف هو الأخطر في تاريخه الحديث: هل يؤلف حكومة إصلاحية جدية تنال دعماً دوليا وتهيئ للانتخابات؟ أو هل ينهار أمام تناحر مافيا السفارات من الداخل ويضحى دولة فاشلة؟
الخيار الأول سيتطلب حكومة غير تبعية، لا يخضع وزرائها لإملاءاتمن أحد ويستوجب إصلاحات سريعة في أيامها الأولى لوقف الانهيار.
أما الخيار الثاني، فهو تحصيل حاصل في حال استمر الشلل الحكومي. فالتفتت المناطقي وملامح الميليشيات بدأت على الأرض وأمام لبنان أشهر إن لم يكن أسابيع لتفادي الانهيار الشامل.