تعد زيارة الحسين بن علي كرم الله وجهه في العشرين من صفر في كربلاء، أو الزيارة الأربعينية، أكبر مشروع إصلاحي لواقع الأمة بهدف بنائها على المستوى التوعوي والفكري والعملي، وتقويم وتحسين مسارها السياسي والفكري.
إن زيارة الأربعين تجمّع إنساني وعالمي يتجاوز الطابع الديني، ويشكّل حدثاً اجتماعيّاً غير مسبوقٍ في العالم لما تجمعه الزيارة من دلالات على المستوى التربوي والعقائدي والسياسي والإعلامي والثقافي. تختزن الزيارة أكبر عملية تفاعلية على عدة مستويات، فهناك الارتباط بين عالمي الغيب والشهود؛ وامتداد الماضي والحاضر والمستقبل؛ ومفاهيم بناء النفس الإنسانية؛ وديناميكيات الثورة الإصلاحية، وعناصر الهوية العاشورائية، وغيرها.
تؤمن الزيارة الأربعينية أبعاد استراتيجية بمعناها التقدمي التحرري الأوسع دلالة من الزمان والمكان بما ينتفي معه إمكانية تصنيفها من المنظور العلمي بالظاهرة الخاضعة للعوامل الزمكانية.
فالزيارة، لا ترتبط بمهب معين بحد ذاته فهي للعالم اجمع كما أنها تعبّر عن تجذر القضية الحسينية في الوجدان الإيماني للمسلمين عموماً والضمير الإنساني للعالم أجمع، فهي عمليّاً نبض حياة متجدد و تحرر من سلطة الظالمين وانعتاق الروح من قيود مفاهيم الخضوع والذل والانكسار.
في التعريف والفضل
يحيي المسلمون في العشرين من شهر صفر من كل عام ذكرى مرور أربعين يوماً على حادثة الطف أو واقعة كربلاء التي استشهد فيها الحسين بن علي كرم الله وجهه مع عدد من أهل بيته من أبنائه وإخوته وأولاد إخوته وأبناء عمومته وأصحابه، وذلك في العام 61 للهجرة النبوية، والزيارة تختصّ الحسين دون سواه،. وتعود هذه السنّة الشريفة إلى السجاد علي بن الحسين مع عمته، زينب بنت علي كرم الله وجهه عندما استرد رؤوس شهداء واقعة الطف من يزيد بن معاوية، وألحقها بالأبدان في كربلاء. وكان ركب السجاد يومها التقى مع ركب الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري الذي جاء ليزور سبط النبي محمد (ص)
يفد الزوار من مختلف أنحاء العالم، ومختلف محافظات العراق لزيارة المراقد والعتبات المقدسة في العراق في هذه المناسبة، وخصوصاً مدينتي النجف وكربلاء. وقد أعيد الاعتبار الى احتفالات أربعينية الامام الحسين بعد سقوط صدام حسين ونظامه ومنعها أكثر من ثلاثة عقود من الزمن.
وتعدّ الزيارة الأربعينية شعيرة من شعائر الله التي أكّدت الشريعة على تعظيمها لسموها ورفعة أهدافها، وجعلت تقوى القلوب ناتجاً طبيعيّاً ملازماً لها، لما لها من الأثر في اجتماع القلوب حولها في احياء دين الله ونصرة أهداف رسالة الأنبياء في رفض الظلم على مدى تاريخ البشرية، وانسجام طرح القضية موضع الاحياء مع الفطرة البشرية في التحرر من قيود الجور بأنواعها.
تعكس الزيارة السمة الحضارية على صعيد الفردي والمجتمعي و في الأمة ولدى أحرار العالم أجمع فهي اعادت الاسلام للطريق الصحيح. ويجسد الزحف المليوني من مختلف أنحاء العالم نحو كربلاء المقدسة تلك السمة في مظاهر متعددة ومختلفة ومراسم مميزة وشاقة. ترسم الزيارة لوحة رائدة في التحرر، تبدأ مع “المشاية” عبر السير على الأقدام باتجاه كربلاء المقدسة من جهات ثلاث: طريق بغداد أو طريق النجف أو طريق مدينة بابل.
تشارك في المراسم مختلف الفئات العمرية من الطفل الرضيع إلى الشيخ الكبير، كما يلتحق بالركب سقيم البدن وأعمى البصر. تعلو الرايات السود ، وتنتشر على جانب الطريق الأيمن مضايف واستراحات، فضلاً عن مستوصفات ومراكز طبية يشرف عليها أطباء وممرضون ومسعفون من دول العالم لتقديم الاسعافات الأولية والعلاجات الطبية وبعض المساجات. وتنتشر قوات الشرطة والحرس الوطني للقيام بالواجب الأمني. يتم استقبال الزوار واللحاق بهم للإستضافة والإطعام والشراب وغسل الملابس ورش العطر وما يتفرع الى ما يتعلق بالنوم والاستحمام والنقل، وذلك كرمى للحسين بن علي كرم الله وجهه.
البعد الروحي
إن الزيارة الأربعينية كفيلة بتعزيز الارتباط بالله تعالى عبر تحويل ألفاظ الحب والأحاسيس أو مشاعر الإعجاب بالقضية التي جسدها الحسين ، إلى ولاء حقيقي قوامه الموالاة للحق والعدل والإنصاف والثبات، والبراءة والكفر بالطواغيت والمستكبرين والظالمين. بهذا المعنى يصبح الحب هو المحرك العملي الذي يستمد منه الإنسان قوة الارتباط بالمعاني النبيلة والقيم الرفيعة. ويؤهل هذا الشق العملي الإنسان للتحرك في بيئته ومجتمعه وفق المفاهيم الإيجابية سواء الإيمانية أو العملية في ضرورة العمل الجاد والإعداد وعدم الخمول واليأس والركون للظلم والظالمين. هذا، وتؤثر الأجواء والمظاهر التفاعلية في الزيارة وأثناء رحلة المشي في ترك انعكاسات نفسية؛ هي في الجملة من الممارسات الديناميكية ما بين العناصر العقلية والقلبية بما يؤمن نوعاً من التحرر الروحي خارج الممارسات التقليدية الحياتية والروتين الأدائي والفكري.
البعد الأخلاقي
توفّر زيارة الأربعين عدداً من الدروس الأخلاقية العملية إذ تستخرج الملكات الأخلاقية والصفات النفسية الكامنة، وتكشف عمليّاً عن المستوى الأخلاقي ودرجته، سواء في السفر أو في درب المشاية والتعامل مع الآخرين وتدارك المواقف. ومن هذه المعطيات الأخلاقية: الصبر والتواضع والإيثار والتضحية بالمال والوقت وبذل الجهد وخدمة الآخرين وتقديم المساعدة، والتعاون، والعفة، والعفو، والحلم، والأدب واحترام حرمات الطريق وغيرها من المعاني الفاضلة، والوفاء بالعهود. وتعد هذه الكمالات من أفضل العبادات التي تكشف عن رقيِّ نفس الإنسان وتؤهلها للتضحية الأعظم لأجل المبادئ والقيم السامية وتساهم في تربية النفس وترويضها لتكون لائقة بحمل أبعاد قضية الحسين، والاقتداء بها، كما تولّد حالة من التفاعل الروحيّ والنفسيّ بما يؤدّي إلى إيقاظ أسمى معاني الخُلُق الرفيع.