توالت المصائب والأزمات على رأس لبنان واللبنانيين فما شهدناه من أحداث الطيونة وشح البنزين والمازوت والكهرباء وسعر الصرف كل ذلك مجتمعاً انعكس سلباً على رأي اللبناني بالانتخابات وصحة مسارها حيث يعتقد البعض أن أمرها قد حسم لكن الجهود الحكومية وما أجرته من تعديلات إنما يصب بمصلحة لبنان واللبنانيين.
لكنّ القوى السياسية النافذة “قفزت”، ظاهريًا على الأقلّ فوق هذه الاعتبارات، لتؤكد العمل على إتمام هذه الانتخابات، لا في موعدها، بل قبله بشهرٍ كامل، وفق ما قرّر مجلس النواب في جلسته التشريعية الأخيرة، في مسعى لاستباق شهر رمضان، بذريعة أنّه قد لا يكون مناسبًا للحملات الانتخابية المكثّفة التي تسبق “اليوم الموعود.
جاء قرار البرلمان ليشكّل تأكيدًا متجدّدًا من القوى السياسية على “التزام” إجراء الانتخابات، بعدما فعلت الأمر نفسه عبر الحكومة، التي تعهّدت في بيانها الوزاري إتمام الاستحقاق الديمقراطي في موعده، وبكل نزاهة وشفافية، وهو ما اعتُبِر أصلاً تنفيذًا لقرار دوليّ، يعتبر الانتخابات “خطًا أحمر”، وشرطًا للدعم، يسبق كلّ الإصلاحات المُنتظَرة.
لكن، هل فعلاً يمكن القول أنّ إجراء الانتخابات قد حُسِم، وأنّ موعدها ثُبّت في 27 آذار المقبل؟ هل يؤثّر “الاعتراض” الذي أبداه رئيس “التيار الوطني الحر” الوزير السابق جبران باسيل، ملوّحًا بالطعن بتعديلات قانون الانتخاب، على الموعد المفترض؟ وماذا لو صحّت الفرضيّات التي تتحدّث عن قرارٍ مستتر متّخَذ بـ”تطيير” الانتخابات؟
بادئ ذي بدء، لا شكّ أنّ شريحة واسعة من اللبنانيين تنظر بعين “الريبة” إلى التعديلات التي أجراها البرلمان في جلسته الأخيرة على قانون الانتخابات، تعديلات قد يكون بعضها مبرَّرًا لوجستيًا، نظرًا لضيق الوقت، لكنّ بعضها الآخر يطرح الكثير من علامات الاستفهام عن المغزى الحقيقيّ، والنوايا التي قد تكون “مبيّتة” لدى البعض.
لعلّ أهمّ الأسئلة التي تُطرَح في هذا السياق يتمحور حول إجراء الانتخابات في آذار، خلافًا لما درج عليه العرف لجهة إجرائها على أعتاب فصل الصيف، في ظلّ طقسٍ مستقرّ يكون مساعدًا، فهل يعتبر موعد شهر رمضان، الذي ينتهي أصلاً أواخر نيسان، “مبرّرًا” لمثل هذا “الاجتهاد”، أم أنّ هناك “إنّ” في الموضوع، كما يعتقد كثيرون؟
وثمّة من يذهب أبعد من ذلك ليعتبر تقريب موعد الانتخابات، استنادًا إلى ذلك، ومع ما ينطوي عليه من “مجازفة”، أمرًا مريبًا، بل قد يكون “فخًّا” يحاول البعض نصبه للعملية الانتخابية، علمًا أنّ عامل الطقس ليس تفصيلاً في هذا الإطار، ومن شأنه أن يساهم في تخفيض نسبة الاقتراع، خصوصًا في القرى والبلدات النائية، طالما أنّ هذا التقريب غير المفهوم لم يقترن أيضًا بإصلاح لا بدّ منه، هو التصويت مكان السكن، مع تطيير مبدأ “الميغاسنتر.
وإذا كان رئيس “التيار الوطني الحر” عبّر عن هذه “الهواجس” حين اعترض، من قلب البرلمان، على تقريب موعد الانتخابات، متحدّثًا عن “عواصف محتملة” في التاريخ المفترض، فإنّ الأمر سرعان ما دخل في “متاهات” السياسة، مع إعادة فتح “الجبهة” غير المقفلة أساسًا بين باسيل ورئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي لم يتردّد البعض في التعليق عليه، بالقول إنّ “مشكلته” مع باسيل، “طغت” على الاشتباك الدمويّ مع “القوات.
هكذا، غرقت الإشكالات “التقنية” التي تحمل الكثير من الواقع، في “وحل السياسة” إن جاز التعبير، فلجأ هذا إلى “المزايدات”، واختار ذاك أن يردّ بـ”الزكزكات”. بدا ذلك جليًا في “المشاكسات” على هامش الجلسة، فحين اعترض باسيل، أسكته بري، على أساس أنّ الأمر “صُدّق”، وبالتالي فإن النقاش بشأنه انتهى، وحين لوّح باسيل بالطعن أمام المجلس الدستوري، كان ردّ بري الجاهز، أنّه يقبل كلّ شيء “إلا التهديد.
لكنّ المشكلة، وسط كلّ ذلك، ليست أنّ بري “مهدَّد”، أو أنّ البرلمان برمّته “مهدَّد”، بل أنّ الانتخابات هي المهدَّدة عن بكرة أبيها، خصوصًا في ضوء فرضيّات عادت لتنشط بقوة، بعد فترة من تراجع الزخم، تقوم على وجود نوايا فعليّة لـ”تطيير” الانتخابات، وقد يكون قرار البرلمان الأخير، معطوفًا على أحداث الطيونة، بمثابة التمهيد المطلوب لها.
وتستند هذه الفرضيات إلى سلسلة “مَخارِج” يبحث عنها المعنيّون، وقد تكون “بوادرها” بدأت تتأمّن، أولها على المستوى اللوجستيّ، فالانتخابات التي بدأ التحضير لها عمليًا، تواجه العديد من “العقبات”، المرتبطة بأزمات البلد المتفاقمة، من الكهرباء إلى البنزين والمازوت وغيرها، والتي أضيفت إليها أزمة الطقس “غير المضمون” في أواخر شهر آذار.
وإلى جانب “المَخرَج” اللوجستي، ثمّة “مَخرَج” أمني يتمّ العمل عليه بهدوء، وهو لم يبدأ بالظهور في أحداث الطيونة الأخيرة فحسب، ولكن، في التداعيات التي أعقبتها، والتي لم توحِ بوجود رغبة في “الاحتواء” بأيّ شكل، بل على العكس من ذلك، لم يتردّد الأفرقاء في العمل على “تسخين” المشهد أكثر، عبر التجييش والتحريض وكلّ ما يمتّ إليه بصلة.
وفي هذا السياق، ثمّة من يطرح علامات استفهام عن مغزى استمرار “تعطيل” الحكومة، وللمفارقة، من جانب الفريق الذي يقول إنّه بذل جهودًا مضنية حتى تولَد لأشهر، فإذا به عند أول مشكل يبدو “مفتعَلاً”، يسارع إلى التصعيد، عبر الاعتكاف، بل التهديد بفرط الحكومة في حال عدم تلبية مطالبه، غير المتوافق عليها.
وبين هذا وذاك، تبقى العقبة الأهمّ سياسيّة، فإذا كان القرار الدوليّ متَّخَذًا بإجراء الانتخابات، فإنّ القوى السياسية تدرك أنّ تنظيم الاستحقاق في ظلّ الظرف الحاليّ، قد يكون “أسوأ سيناريو” بالنسبة إليها، لا سيما في ظلّ النقمة الشعبية التي تتفاقم مع كلّ ارتفاع في الأسعار، كما يحصل مثلاً على خط المحروقات، والتحليق الجنوني الأسبوعي للأسعار.
لذلك، يبدو أنّ القوى السياسية أمام خيارَين “أسوأ” من بعضهما البعض، فإما تواصل “التجييش”، دون اكتراث بتداعياته، وتذهب إلى “التصعيد” بكل أشكاله، حتى تستعيد “جمهورها” بطريقة ما، وإما تلغي الاستحقاق تمامًا، وهو المرجَّح إذا ما عجز الخيار الأول عن تحقيق المراد منه، وهنا بيت القصيد!.